الأسرة الممتدة .. حصن الأمان
بقلم / إيمان القدوسي
بينما أمضي في طريقي لفت نظري وهو يقف يتأمل اللحوم المعروضة في واجهة المحل ويتشمم روائح الشواء الشهية ، كان صغيرا ضئيلا لاتكاد تتضح ملامحه التي غطتها القذارة والإهمال ، لم أري من قبل مشهدا يدل علي الجوع واشتهاء الطعام مثل هذا ، اقتربت منه وقلت له : أنت جائع تعالي معي لأحضر لك ما تشاء ، وداخل المحل طلبت من البائع الطعام ولكنه لم يكن متحمسا للبيع وكان متلكئا وهو يتناول النقود من يدي ، ظل ينظر شذرا للولد المسكين وكان الولد يتضاءل تحت وطأة نظراته ، بينما منحني نظرات شفقة بها بعض الاستخفاف لسذاجتي وقال : (لا يغرك منظره هو وأمثاله ، أنت لا تعرفين ما يفعلونه) ، انتظرت حتي أخذ الولد طعامه ومضي ، دون أن يلتفت إلي أو ينظر في عيني ، بل إنه لم ينطق بكلمة واحدة وكان يكتفي بهز الرأس ، لم يهتم بنظراتي المشفقة ولكنه خاف بشدة من نظرات البائع المتوعدة وذلك لأنه يفهمها جيدا ويعرف ماذا تعنيه ، أما الشفقة و التواصل الإنساني الطبيعي فهو ترف لم يألفه .
أعرف جيدا ما يفعله هؤلاء البؤساء من أولاد وبنات الشارع ، وأخاف أكثر مما سيفعلونه مستقبلا عندما تشتد سواعدهم ويردون الصاع صاعين للمجتمع الذي لفظهم في العراء وحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية ، طفل الشارع عندما يكبر سوف يتحول لوحش آدمي متبلد المشاعر عديم الضمير لن يجد أي غضاضة في ارتكاب أبشع الجرائم لأتفه الأسباب ، فالمجتمع لم يدمجه في نسيجه بل تركه بعيدا وحده فلا مفر من أن يكون ضده ، وسوف تكون فلسفته بسيطة للغاية ( اضرب واهرب بما تستطيع من غنائم من أعداءك المنعمين في فراشهم الوثير والمتحصنين داخل الغرف الدافئة )
في الماضي القريب لم تكن مجتمعاتنا تعرف هذه الظاهرة الخطيرة التي تتزايد كل يوم ، ومهما تحدثنا عن واجب الدولة في استيعابهم داخل دورها الرسمية أو إيجاد حل جذري لهم ، إلا أن هناك دورا هاما للعائلات بدأت في التخلي عنه ، كانت الأسر الممتدة الكبيرة تحول دون سقوط فقراءها للقاع ، فكانت تكفل المعوزين وتزوج الفتيات وتتكفل بالأيتام ، وكان ذلك يتم بشكل عفوي كأنه واجب وأمرا مفروغا منه ، شخصيا شهدت ذلك في بيت جدي مرارا وتكرارا ولم أكن وأنا صغيرة أعرف من هم هؤلاء الناس الذين يمتلأ بهم البيت كل فترة ، كنت أسأل جدتي فتجيب ببساطة (أقاربنا ) ، وكانت رحمها الله تتولي تجهيز البنت التي ستتزوج ببساطة وهدوء دون مناقشة .
اليوم لم تعد المرأة تحديدا تطيق أحدا خاصة من أقارب الزوج ، وتفككت الأسر وصار النموذج السائد هو الأسرة النووية ( زوج وزوجة وأبنائهما ) حتي أولاد العم والخال تقريبا لا يعرفونهم ، وما ألمسه بنفسي أن الفتاة المتزوجة حديثا تبدأ في محاولاتها الدائبة للاستئثار بالزوج وعزله حتي عن أمه وأخته وتدريجيا تنجح في ذلك ، فهل سيسعدها ذلك ؟
لن يحقق لها السعادة ، وعندما تحتاج يوما للأهل والعزوة لن تجدهم وسيتربي أبناءها كأنهم بلا أهل ، لماذا لا تعيد الفتيات التفكير في هذا الأمر وتساعد زوجها علي الارتباط بأهله وتحرص هي علي الارتباط بأهلها ويكون لديها اليقين أنه ( ما نقص مال من صدقة ) وأن أعظم دلائل التدين الحق هو الإحسان للمحتاجين خاصة من الأقارب ، إن إنقاذ أيتام صغار من التشرد والتحول لتلك الصورة البائسة هو حفاظ علي أرواح خلقها الله وجعلها وديعة بين أيدينا وسوف يجد من يفعل ذلك حسن الجزاء في الدنيا والآخرة .
يحتاج الأمر من المرأة التخلي عن مشاعر الغيرة والحساسية والتدقيق في الصغائر والرغبة الخفية في الاستئثار بالزوج وذلك لتندمج في أسرة زوجها وتصبح جزءا من أسرة ممتدة وقوية، وعندما تفتح الأسر بابها وتحتوي ضعفاءها سيسهم هذا كثيرا في التخفيف من ظواهر التفكك الأسري التي نشهدها وتهدد أمن وسلامة الجميع ،وسوف تحل البركة ويتزايد الرزق لمن يفعل كما قال صلي الله عليه وسلم ( مامن يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان يناديان ، اللهم اعطي منفقا خلفا ، اللهم اعطي ممسكا تلفا )
الأسرة الممتدة حصن الأمان ليس لفقراءها وضعفاءها فقط ولكن لكل من ينتمي إليها وخاصة الصغار الذين سيثري وجدانهم تفاصيل جميلة التقطوها من بيتهم الكبير ، بيت العز .
.
___
المصدر : صحيفة المصريون بتاريخ 10 - 4 - 2009م
تعليق
إننا عندما ننادي بالبناء العائلي الممتد, وننجح في ذلك و بالطريقة الموصوفة في مشروعنا هذا
مع الزمن تصبح المناشط المذكورة , "عادة", "سلم", "سلوم" متبعه في الأسرة تؤديها تلقائيا و من غير تكلف.
الصعوبة حاليا تكمن في تشكيل اسرنا بالطرق المطروحة هنا, وبعدها لن تتصاعب الأجيال المقبله على إكمال المسيرة بكل هدؤ, وهذا طبيعة الكثير من المشاريع.
للنظر الى الطرق التقليدية القديمة في تنظيم حجاج بيت الله الحرام, ونقارنها بالطرق المتبعة حاليا.
دعوة
من اقتنع في مشروعنا هذا , فليبادر بالسعي لتفعيله في أهله و ذويه, و يسعى لدعوة الآخرين اليه.