رابعاً : بطلان مقولة اختلاف العلماء رحمة : أخوتاه هناك مقولة شاعت باطلة المعنى ، ولا أصل لها ، وهى مقولة اختلاف العلماء رحمة ، وقد يستند قائلها إلى حديث : « اختلاف أمتي رحمة » قال الألباني فى شأن هذا الحديث : ( و لقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا ، حتى قال السيوطي في" الجامع الصغير " : و لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا ! . و هذا بعيد عندي ، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه r ، و هذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده . و نقل المناوي عن السبكي أنه قال : و ليس بمعروف عند المحدثين ، و لم أقف له على سند صحيح ، و لا ضعيف ،و لا موضوع . و أقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على " تفسير البيضاوي " ( ق 92 / 2 ) . ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء ، فقال العلامة ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام " ( 5 / 64 ) بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث : و هذا من أفسد قول يكون ، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا ، و هذا ما لا يقوله مسلم ، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف ، و ليس إلا رحمة أو سخط . و قال في مكان آخر : باطل مكذوب )[15] ،وكيف يكون الاختلاف رحمة ،والله نهى عن الاختلاف مطلقاً ،ومن جملة الاختلاف الاختلاف فى الدين فقد قال تعالى : ﴿ َلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ِإلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾[16] لذلك الاختلاف مذموم ، وقد أخبر الله أن الاختلاف ليس من عنده ، وهذا يستلزم أن الحق واحد ،وما سواه باطل فقد قال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾[17] ،وكل مجتهد مأمور بالاجتهاد ،وبإصابة الحق ،والاجتهاد فعل المجتهد ،والشرع أمر بالاجتهاد ،وليس ما أداه إليه اجتهاده ، والاجتهاد كله حق وهو طلب الحق وإرادته فإذا كان الاجتهاد مخالفا للشرع ،والمجتهد علم ذلك وجب عليه الرجوع عنه فقد قال تعالى : ﴿وَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[18] فإذا وجد العالم قوله يخالف الكتاب والسنة وجب عليه الرجوع عنه ،وهذا فعل الأئمة المجتهدين قال أبو حنيفة رحمه الله : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي )[19]وأيضاً : ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه )[20] وفي رواية : ( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي )، زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ) ،وقال مالك رحمه الله : ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه )[21] وقال الشافعي : ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله r ،وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله r خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله r وهو قولي )[22] وقال أيضاً : ( كل ما قلت فكان عن النبي r خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني )[23] فهذه الأقوال دالة على عدول الأئمة عن قولهم إذا خالف دليل .